سورة الأحزاب - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


وقولُه تعالى: {لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ} متعلقٌ بمضمرٍ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ ما هو داعٍ إلى ما ذُكر من أخذِ الميثاقِ وغاية له لا بأخذنا فإنَّ المقصودَ تذكيرُ نفسِ الميثاقِ ثمَّ بيانُ الغرضِ منه بياناً قصديَّاً كما ينبىءُ عنه تغييرُ الأسلوبِ بالالتفات إلى الغَيبةِ أي فعل الله ذلك ليسألَ يومَ القيامةِ الأنبياءَ، ووضعَ الصَّادقينَ موضعَ ضميرِهم للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّهم صادقون فيما سُئلوا عنه وإنَّما السُّؤالُ لحكمةٍ تقتضِيه أي ليسألَ الأنبياءَ الذين صدقُوا عهودَهم عمَّا قالُوه لقومِهم أو عن تصديقِهم إيَّاهم تبكيتاً لهم كما في قولِه تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} أو المصدِّقين لهم عن تصديقِهم فإنَّ مصدِّقَ الصَّادقِ صادقٌ وتصديقَه صدقٌ وأما ما قيل: من أنَّ المعنى ليسأل المؤمنينَ الذين صدقُوا عهدَهم حين أشهدَهم على أنفسِهم عن صدقِهم عهدَهم فيأباهُ مقامُ تذكيرِ ميثاقِ النبيينَ. وقولُه تعالى: {وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً} عطفٌ على ما ذُكر من المضمرِ لا على أخذَنا كما قيلَ. والتَّوجيه بأنَّ بعثةَ الرُّسلِ وأخذَ الميثاقِ منهم لإثابةِ المؤمنينَ أو بأنَّ المعنى أنَّ الله تعالى أكَّد على الأنبياءِ الدَّعوةَ إلى دينِه لأجلِ إثابةِ المُؤمنينَ تعسُّفٌ ظاهرٌ مع أنَّه مفضٍ إلى كونِ بيانِ إعدادِ العذابِ الأليمِ للكافرينَ غيرُ مقصودٍ بالذَّاتِ نعم يجوزُ عطفُه على ما دلَّ عليه قولُه تعالى: ليسألَ الصَّادقينَ كأنَّه قيل: فأثابَ المؤمنينَ وأعدَّ للكافرينَ الآيةَ.
{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} إنْ جُعل النِّعمةَ مصدرَاً، فالجارُّ متعلِّقٌ بها وإلا فهو متعلِّق بمحذوفٍ هو حالٌ منها أي كائنةً عليكُم {إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} ظرفٌ لنفسِ النِّعمةِ أو لثبوتِها لهم، وقيل: منصوبٌ باذكروا على أنَّه بدلُ اشتمالٍ من نعمةِ الله، والمرادُ بالجنودِ الأحزابُ وهُم قريشٌ وغَطَفانُ ويهودُ قريظةَ والنَّضيرِ وكانُوا زُهاءَ اثني عشرَ ألفاً فلمَّا سمعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإقبالِهم ضربَ الخندقَ على المدينةِ بإشارةِ سلمانَ الفارسيِّ ثمَّ خرجَ في ثلاثةِ آلافٍ من المُسلمينَ فضربَ معسكَرهُ والخندقُ بينَهُ وبينَ القومِ وأمرَ بالذَّرارىِ والنِّساءِ فَرفعوا في الآطامِ واشتدَّ الخوفُ وظنَّ المؤمنونَ كلَّ ظنَ ونجمَ النِّفاقُ في المنافقينَ حتَّى قال معتِّبُ بنُ قُشيرٍ: كان محمدٌ يَعِدنا كنوزَ كسرى وقيصرَ ولا نقدرُ أنْ نذهبَ إلى الغائطِ ومضَى على الفريقينِ قريبٌ من شهرٍ لا حربَ بينهم إلا أنَّ فوارسَ من قريشٍ منهم عمروُ بنُ عبدِوُدِّ وعكرمةُ بنُ أبي جهلٍ وهُبيرةُ بن أبي وهبٍ ونوفلُ بنُ عبدِ اللَّه وضرارُ بنُ الخطَّابِ ومرداسُ أخُو بني محاربٍ قد ركبُوا خيولَهم وتيَّممُوا من الخندقِ مكاناً مضيقاً فضربُوا خيولَهم فاقتحمُوا فجالتْ بهم في السَّبخة بين الخندقِ وسلعٍ فخرج عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه في نفرٍ من المسلمين حتَّى أخذَ عليهم الثَّغرة التي اقتحمُوا منها فأقبلتِ الفرسانُ نحوَهم وكان عمروٌ معلماً ليُرى مكانُه فقال له عليٌّ رضي الله عنه: يا عمرُو إنِّي أدعُوك إلى الله ورسولِه والإسلامِ قال: لا حاجةَ لي إليهِ قال: فإنيِّ أدعُوك إلى النِّزالِ قال: يا ابنَ أخي والله إنِّي لا أحبُّ أنْ أقتلَك قال عليٌّ لكنِّي والله أحبُّ أنْ أقتلَك فحمي عمروٌ عند ذلكَ وكان غيُوراً مشهُوراً بالشَّجاعةِ واقتحمَ عن فرسِه فعقَره أو ضربَ وجهَه ثم أقبلَ عَلَى عليَ فتناولاَ وتجاولاَ فضرَبه عليٌّ رضي الله عنه ضربةً ذهبتْ فيها نفسُه فلما قتلَه انهزمتْ خيلُه حتى اقتحمتْ من الخندقِ هاربةً وقتل مع عمروٍ رجلانِ منبِّه بنُ عثمانَ بنِ عبدِ الدَّار ونوفلُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ المُغيرةِ المخزومِّي قتلَه أيضاً عليٌّ رضي الله عنه وقيل: لم يكُن بينهم إلا التَّرامي بالنَّبلِ والحجارةِ.
حتَّى أنزل الله تعالى النَّصرَ وذلكَ قولُه تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} عطفٌ على جاءتْكُم مسوقٌ لبيانِ النِّعمةِ إجمالاً وسيأتي بقيَّتُها في آخرِ القصَّة {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكةُ عليهم السَّلامُ، وكانُوا ألفاً بعثَ الله عليهم صَباً باردةً في ليلةٍ شاتيةٍ فأخصرتْهمُ وسفتِ التُّرابَ في وجوهِهم وأمرَ الملائكةَ فقلعت الأوتادَ وقطَّعتِ الأطنابَ وأطفأتِ النِّيرانَ وأكفأتِ القُدورَ وماجتِ الخيلُ بعضُها في بعضٍ وقُذفَ في قلوبِهم الرُّعبُ وكبَّرتِ الملائكةُ في جوانبِ عسكرِهم فقال طليحةُ بنُ خوُيلدِ الأسديُّ: أما محمدٌ فقد بدأكم بالسِّحرِ فالنَّجاءَ النَّجاءَ فانهزمُوا من غيرِ قتالٍ {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} من حفرِ الخندقِ وترتيبِ مبادىءِ الحربِ وقيل: من التجائِكم إليه ورجائِكم من فضلِه. وقرئ بالياءِ أي بما يعملُه الكفَّارُ أي من التَّحرزِ والمحاربةِ أو من الكفرِ والمعاصِي. {بَصِيراً} ولذلكَ فعلَ ما فعلَ من نصرِكم عليهم، والجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لما قبله.


{إِذْ جَاءُوكُم} بدلٌ من إذْ جاءتْكُم {مّن فَوْقِكُمْ} من أعلى الوادِي من جهةِ المشرقِ وهم بنُو غطَفَان ومَن تابعَهم من أهلِ نحدٍ قائدُهم عيينةُ بن حِصْنٍ وعامرُ بنُ الطُّفيلِ في هوازنَ وضامتهم اليهودُ من قريظةَ والنَّضيرِ {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي من أسفلِ الوادِي من قبلِ المغربِ وهم قُريشٌ ومن شايعهم من الأحابيشِ وبني كِنانةَ وأهل تِهامةَ وقائدُهم أبوُ سفيانَ وكانُوا عشرةَ آلافٍ. {وَإِذْ زَاغَتِ الابصار} عطفٌ على ما قبلَه داخلٌ معه في حُكمِ التَّذكيرِ أي حين مالتْ عن سَننِها وانحرفتْ عن مُستوى نظرِها حيرةً وشُخوصاً وقيل: عدلتْ عن كلِّ شيءٍ فلم تلتفتْ إلاَّ إلى عدوِّها لشدَّةِ الرَّوعِ {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} لأنَّ الرئةَ تنتفخ من شدَّةِ الفزعِ فيرتفعُ القلبُ بارتفاعِها إلى رأسِ الحنجرةِ وهي مُنتهى الحُلقومِ وقيل: هو مثلٌ في اضطرابِ القلوب ووجيبِها وإنْ لم تبلغْ الحناجرَ حقيقة والخطابُ في قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} لمن يُظهر الإيمانَ على الإطلاقِ أي تظنُّون بالله تعالى أنواعَ الظُّنونِ المختلفةِ حيثُ ظنَّ المُخلصون الثُّبتُ القلوبِ أنَّ الله تعالى يُنجز وعدَهُ في إعلاءٍ دينِه كما يُعرب عنه ما سيُحكى عنهم من قولِهم: {هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} الآيةَ أو يمتحنهم فخافُوا الزَّللَ وضعفَ الاحتمالِ. والضِّعافُ القلوبِ والمنافقون ما حُكي عنهم ممَّا لا خيرَ فيهِ والجملُة معطوفةٌ على زاغتِ وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورةِ والدِّلالة على الاستمرارِ. وقُرى الظُّنونَ بغيرِ ألفٍ وهو القياسُ وزيادتُها لمراعاةِ الفواصلِ كما تُزاد في القوافِي.


{هُنَالِكَ} ظرفُ زمانٍ أو ظرفُ مكانٍ لما بعدَه أي في ذلك الزِّمانِ الهائلِ أو المكانِ الدَّحضِ. {ابتلى المؤمنون} أي عُوملوا معاملةَ مَن يُختبر فظهرَ المُخلِص من المنافقِ والرَّاسخُ من المتزلزلِ. {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} من الهَولِ والفزعِ وقرئ بفتحِ الزَّاي {وَإِذْ يَقُولُ المنافقون} عطفٌ على إذْ زاغتِ. وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من الدِّلالةِ على استمرارِ القولِ واستحضارِ صورتِه {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي ضعفُ اعتقادٍ {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} من إعلاءِ الدِّينِ والظَّفرِ {إِلاَّ غُرُوراً} أي وعدَ غرورٍ وقيل: قولاً باطلاً والقائلُ مُعتبُ بنُ قُشيرٍ وأضرابُه راضون به قال يَعِدنا محمدٌ بفتحِ كنوزِ كِسرى وقيصرَ وأحدُنا لا يقدرُ أنْ يتبرزَ فَرَقاً ما هذا إلا وعدُ غرورٍ.
{وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} هم أوسُ بنُ قَيظى وأتباعُه وقيل عبدُ اللَّه بنُ أُبيّ وأشياعُه {ياأهل يَثْرِبَ} هو اسمُ المدينةِ المُطهَّرةِ وقيل: اسمُ بقعةٍ وقعتِ المدينةُ في ناحيةٍ منها وقد نهى النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ تُسمَّى بها كراهةً لها وقال «هي طَيبةُ» أو «طَابةُ» كأنَّهم ذكروها بذلك الاسمِ مخالفةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ونداؤُهم إيَّاهم بعنوانِ أهليَّتِهم لها ترشيحٌ لما بعدَه من الأمرِ بالرُّجوعِ إليها {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} لا موضعَ إقامةٍ لكُم أو لا إقامةَ لكُم ههنا يُريدون المعسكرَ. وقرئ بفتحِ الميمِ أي لا قيامَ أو لا موضعَ قيامٍ لكم {فارجعوا} أي إلى منازلِكم بالمدينةِ مرادُهم الأمرُ بالفرارِ لكنَّهم عبَّروا عنه بالرُّجوعِ ترويجاً لمقالِهم وإيذاناً بأنَّه ليس من قبيلِ الفرارِ المذمومِ وقيل: المَعنى لا قيامَ لكم في دين محمد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فارجعُوا إلى ما كنتُم عليه من الشِّركِ أو فارجعُوا عمَّا بايعتُموه عليه وأسلمُوه إلى أعدائِه أو لا مقامَ لكُم في يثربَ فارجعُوا كفَّاراً ليتسنَّى لكُم المقامُ بها والأولُ هو الأنسبُ لما بعدَه فإنَّ قولَه تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى} معطوفٌ على قالتْ. وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من استحضارِ الصُّورةِ وهم بنُو حارثةَ وبنُو سلمةَ استأذنُوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الرُّجوعِ ممتثلينَ بأمرِهم. وقولُه تعالى: {يَقُولُونَ} بدلٌ مِن يستأذنُ أو حالٌ من فاعلِه أو استئنافٌ مبنيُّ على السُّؤالِ عن كيفيَّةِ الاستئذانِ {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي غيرُ حصينةٍ معرِّضةٌ للعدوِّ والسُّرَّاقِ فأذنْ لنا حتَّى نُحصنها ثم نرجع إلى العسكرِ. والعورةُ في الأصلِ الخللُ أُطلقت على المُختلِّ مبالغةً وقد جُوِّز أنْ تكونَ تخفيفَ عوّرةٍ من عوَّرتِ الدَّارُ إذا اختلَّتْ وقد قرئ بَها والأولُ هو الأنسبُ بمقامِ الاعتذارِ كما يُفصح عنه تصديرُ مقالِهم بحرفِ التَّحقيقِ {وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ} والحالُ أنَّها ليستْ كذلكَ {إِن يُرِيدُونَ} ما يُريدون بالاستئذانِ {إِلاَّ فِرَاراً} من القتالِ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8